إني كنت قد قد كتبت مقالا في سالف الأيام ، وقد نشر في مجلة من المجلات حوى في ثناياه موضوعا مهمّا يتعلق بالغة العربية وفنونها ، وكان هذا المقال تحت عنوان : (اللغة العربية غاية شرعية ونبذة وجيزة عن علم النحو واللغة والأدب والبيان),
ومن ضمن ما ورد فيه أنني قد وقفت على كلام نفيس لعلامة المغرب وقاضيها الشهير عبد الرحمن بن خلدون – رحمه الله تعالى – في كتابه (المقدمة)° يتعلق بالعربية وفنونها ، وأنها ضرورة شرعية لا يستغني عنها طالب العلوم الشرعية ، وقد وطّأت بمقدمة واضحة المغزى ، جليلة المعنى ، ونقلت نبذة وجيزة عن علم النحو وكيف مرّ بأطوار عبر القرون والأزمان ، وذكرت أنني سأواصل الكلام على بقية فنون اللغة العربية في حلقات على ما يتاح لنا ، ناقلا الكلام العلامة ابن خلدون ، متصرفا في بعض عباراته فتارة بالتصريح وتارة بالإشارات.
فجاءت مجلة (الإصلاح) الفتاة – بحمد الله تعالى – فاسحة لنا المجال لبث هذه المهمات ، ونشر ما علق بالخاطر من موضوعات ، ونقل بقية السلسلة الموعودة في مقالات.
سائلا المولى تبارك وتعالى أن ينفع بها القارئين والقارئات.
وإن غايتنا من ذكر هذا الموضوع هو تذكير الناس بهذه اللغة العظيمة التي هي شرف أمة الإسلام وهويتها والتي اصطفاها الله تعالى على غيرها من اللغات ، وشرفها على سواها من اللغات ، وقد تكلم سبحانه وتعالى بهذا القرآن الكريم الذي تحدّى به الثقلين الجن والإنس على أن يأتوا بسورة مثله فلم ولن يستطيعوا أن يأتوا بآية مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وإن هدفنا أيضا هو الحث على التشبث بها والعض عليها بالنواجذ ؛ لأنها أساس الدين المتين ، وسراجه المنير ، وهي التي تقول عن نفسها كما وصفها شاعر النيل حافظ إبراهيم :
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامن
فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن اللغة العربية ما عني بها العلماء قديما وحديثا لمجرد ذكر قواعدها وبيانها وإعجازها ، ولم تكن تلك العناية والرعاية سدى وهملا ، وإنما هي امتثال لأمر إلهي وجب تطبيقه وبيانه للناس أجمعين.
ومن هنا نعلم – أيها القاريء – الكريم أن الله تعالى قد أوجب على كل مسلم تعلم جزء من العربية بقدر ما يقيم به ألفاظ سورة الفاتحة ، وبقدر ما يقيم به التكبير والتسميع والسلام في الصلاة ، ولا يسع مسلما جهله ، قال تعالى : (فاقرءوا ما تيسّر منه) [المزمل : 20].
وقد اختلف العلماء في تحديد القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم اللغة العربية ، فقال قوم : لابد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة ، وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب ، وألفاظ الأذكار التي تجب مرّة في العمر كالتهليل والاستغفار والتسبيح والتحميد وغير ذلك ، فهذه المذكورات يجب على المسلم أن يتعلم معانيها بالعربية عند الإمام مالك وسفيان الثوري و الأوزاعي وغيرهم من كبار علماء السلف – رحمهم الله تعالى – معللين ذلك بأمور ، منها كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) مثلا يمكن أن تلقن لأي إنسان ولا يلتزم بمقتضياتها وشروطها ، فالجاهل بمعنى ( لا إله إلا الله ) لم يلتزم شروطها ولو نطق بها ولذلك أوجب العلماء على العباد هذا القدر من اللغة العربية لئلا يقعوا في المحظور ، وهذا من الفروض العينية.
ثم إن بعض المتكلمين المتأخرين قد توسعوا في هذا الباب فقالوا : إن من لم يفهم ما تتناوله كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) من العقائد وما تتضمنه من معان فإنه أخل بمقتضياتها ولم يؤد شروطها ، وهذا القول – كما يقول أشياخنا وعنهم نقلنا هذا الكلام – حرفا ومعنى ، في غاية التشدد والمبالغة يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله.
والقول الذي ذهب غليه الإمام مالك وغيره من العلماء هو المستسهل الذي يقتضي تعلم أقل نسبة وهي ما يكون المؤمن به فاهما لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله.
وإن المتأمل في أقوال العلماء بعين الإمعان في هذا الباب يجد الأمر ذا أهمية بالغة ، ويتجلى له أن من واجباته العينية تعلم جزء من العربية يفهم به معنى الشهادة ويقيم به ألفاظ التعبدات ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) (1/470-471 ) :
(إنّ نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب ، فإنّ فهم الكتاب والسنة على الكفاية وهذا معنى ما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن زيد قال : كتب عمر غلى أبي موسى رضي الله عنه : ( أما بعد : فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي ).
وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال : (تعلموا العربية فإنها من دينكم ، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم) وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه ؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال ، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله ، وفقه السنة هو فقه أعماله ) أه.
ثم إن الفرض الكفائي من تعلم اللغة العربية هو ما إذا قام به ما يحصل به إقامة الحجة على الناس كفى وهذا داخل في عموم قوله تبارك وتعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ) [ النساء: 135 ] فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهدا لله إذا لم يكن فاهما لما يشهد به ؛ لأن العلم شرط في الشهادة لقوله تعالى : ( وما شهدنا إلاّ بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ) [( يوسف : 81)] .
وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية وهي اثنا عشر فنا مجموعة في قول الناظم :
نحو وصرف وعروض ثمّ قافية
وبعدها لغة قرض وإنشاء
خط بيان معان مع محاضرة
والاشتقاق لها الآداب أسماء
وهذه الفنون المذكورة في قول الناظم إذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعا ، وإن وجد من يعلم جزئياتها بقدر رد الشبهات وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة سقط الإثم عن الجميع.
وإن أقدمها وأشرفها هو علم النحو ، لأن به إقامة الكلم ومعرفة التركيب كما قال ابن مالك في الكافية :
وبعد فالنحو صلاح الألسنة
والنفس إن تعدم سناه في سنه
وقد ذكرت نبذة عنه بإيجاز في مقالي المذكور كما أشرت إلى ذلك في مطلع هذا المقال ، وإن هذا العلم الجليل من يجهله ويجهل جزئياته لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية.
ومن كبير شأن هذه اللغة وعلو منزلتها أن بعض المنتسبين للعلم قد جرّحوا بسبب لحنهم فيها ولهذا كان بعض علماء السلف يشنعون على من يروي الحديث بالمعنى ثم يلحن فيه ، وأن اللحن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقع صاحبه في تغيير المعنى ولو كان عن غير قصد إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحن قطعا وجزما .
قال العراقي في ألفية مصطلح الحديث:
وليحذر اللّحّان والمصحّفا
على حديثه بأن يحرّفا
فيدخلا في قوله: من كذبا
فحقّ النّحو على من طلبا
ولخطورة اللحن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوه في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ) كما أشار الأصمعي بقوله :
(إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يكن يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كذب عليّ ..... ) الحديث.
ومثل ذلك القرآن الكريم إذا يجب أن يكون موافقا لوجه من وجوه النحو كما قال ابن الجزري في (طيبة النشر):
وكلّ ما وافق وجها نحوي
وكان للرّسم احتمالا يحوي
وصحّ إسنادا هو القرآن
فهذه الثلاثة الأركان
وبهذا يتجلى واضحا أن الإنسان إذا لم يكن صاحب لسان يمكن أن يعبّر أو يروي به فهو على خطر عظيم وخطأ جسيم حيث يتكلّم في العلوم الشرعية والفنون الأدبية.
ومما ذكره أهل الأخبار أن أبا الأسود الدؤلي حين كلمته ابنته وهي رافعة وجهها إلى السماء وتأمّلت بهجة النجوم وحسنها ثم قالت : ما أحسن السماء على صورة الاستفهام فقال : يا بنية نجومها ؛ فقالت إنما أردت التعجب ، فقال لها: قولي : ما أحسن السماء وافتحي فاك ، وهذه صيغة من صيغ التعجب التي أشار إليها ابن مالك في (الخلاصة) :
بأفعل انطق بعدما تعجب
أو جيء بأفعل قبل مجرور ببا
وتلو أفعل انصبنّه كما
أوفي خليلينا وأصدق بهما
أي إذا أردت التعجب حتى جيء بصيغة (افعل) بعد (ما) مفتوحا ثم افتح المتعجب منه أو جيء بصيغة أخرى وهي (أفعل به) وفي الباب قواعد وضوابط تؤخذ من مظانّها.
ومما رووه أيضا أن توجيه سيبويه إلى علم النحو هو لحنه الحديث.
ذكر السخاوي في (شرحه على ألفية العراقي في مصطلح الحديث ) عن أبي سلمة حماد بن سلمة أنه قال لإنسان: (إن لحنت في حديثي فقد كذبت عليّ فإنّي لا ألحن ، وصدق رحمه الله فإنه كان مقدما في ذلك بحيث أن سيبويه شكا غلى الخليل بن أحمد أنه سأله عن حديث هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعف بضم العين – على لغة ضعيفة – فانتهره وقال له : أخطأت إنما هو رعف يعني بفتحها ، فقال له الخليل: صدق ، أتلقى بهذا الكلام أبا سلمة. وهو مما ذكر في سبب تعلم سيبويه العربية).
وقد توجه كثير من أهل العلم إلى تعلم علوم العربية بسبب لحنهم في الحديث كما وقع لثابت البناني حين سأله الحسن البصري في كلمة رعف فقال الحسن : أتعجز أن تقول رعف ، فاستحى ثابت وطلي العربية حتى قيل له في انهماكه فيها: ثابت العربي.
فانظر وتأمل أخي القارئ الكريم كيف صار سيبويه بسبب لفظة لحن فيها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إماما يحتذى به في هذا العلم الجليل ، فهو صاحب (الكتاب) والذي غذتا أطلق لم يتبادر إلى الفهم غير كتابه ، وقد هذ فيه علم النحو واستوفى قواعده وضوابطه وكل من جاء بعده فهم عيال عليه.
ومما ذكروه ايضا أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي صاحب المذهب المشهور وواضع قواعد أصول الفقه لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة بني هذيل يحفظ أشعارهم ودواوينهم وقد وفق لحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من أشعارهم ؛ وقد قال الأصمعي : (صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له : محمد بن إدريس الشافعي).
وذكر حافظ المغرب يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر المالكي في ( جامع بيان العلم وفضله ) : عن نافع عن ابن عمر أنه : ( كان يضرب ولده على اللحن )°°
وقال الشعبي : (النحو في الكلام ملح في الطعام لا يستغنى عنه).
وأنشد الخليل بن احمد الفراهيدي:
أي شيء من اللباس ال
سر وأبهى من اللسان البهي
ينظم الحجّة الشّتيتة في السّل
ك من القول مثل عقد الهدي
وترى اللحن بالحسيب أخي الهي
ئة مثل الصّدي المشرفي
فاطلب النّحو للحجاج وللشّع
ر مقيما وللمسند المروي
والخطاب البليغ عند الجواب ال
قول يزهى بمثله في النّدي
وعن الربيع بن سليمان قال: سمعت محمد ابن إدريس الشافعي يقول: ( من حفظ القرآن عظمت قيمته ، ومن طلب الفقه نبل قدره ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في النحو رق طبعه ، ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم )
وقيل قديما : ( المرء مخبوء تحت لسانه ، والإنسان شطران لسان وجنان ).
قال زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصف نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال شعبة: ( تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل ).
وقال أحمد بن يحيى:
إما تريني وأثوابي مقارنة
ليست بخزّ ولا حرّ كتّان
فإن في المجد همّاتي وفي لغتي
علويّة ولساني غير لحّان
وقال بعضهم:
النحو يصلح من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها
فأجلّها نفعا مقيم الألسن
ومما أملاه بعض شيوخنا :
قدم النحو على الفقه فقد
يبلغ النحوي بالنحو الشرف
أما ترى النحوي في مجلسه
كهلال بان من تحت الشغف
يخرج الألفاظ من فيه كما
يخرج الجوهر من بطن الصدف
أخي القاريء الكريم علمت من خلال ما عرضناه في هذا المقال الوجيز نقلا عن الأشياخ والأعلام أن اللغة العربية هي ركن هذا الدين الأصيل ، وأساس بنيانه المتين فهي مجدنا الذي نرفع به رؤوسنا ، وهي شرفنا الذي نرد به عزّنا وبها نفهم القرآن الكريم الذي أنزل بلسان عربي مبين ، وبها نفهم سنة سيد الأنبياء وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم ,
وإني أختم كلامي هذا بتوجيه نداء خالص من هذه الواحة الغنّاء ، والساحة الفيحاء من منبر مجلة (الإصلاح) الغراء – أمد الله بقاءها ونفع بها أمة الإسلام – إلى الكتاب والمثقفين والأدباء والشعراء من أهل بلادنا الجزائر – وقاها الله شر الآفات والأهواء وبلاد العالم العربي والإسلامي كافة – أن حافظوا على هذه اللغة وصونوها من التحريف والتبديل إذ أنتم حماتها وحصنها الحصين ، ويسروها للناس بتسهيل تدريس قواعدها ، وانشروا الوعي الصحيح بأنها لغة ذات رونق وجمال وحسن وبهاء ، وبلاغة وفصاحة سهلة ميسرة.
رجائي من أصحاب الأقلام السيالة والفكر الوقاد والثقافة المحافظة وأرباب اللغة الفصحاء والشعراء المفلقين ، والناثرين المبدعين ، وأدباء الأمة ومعلميها أن يشاركوا بالمقالات والكتابات بالفصحى من الكلام في أنواع الصحف والمجلات ، وأن يقيموا المسابقات الشعرية ومنتديات الأدب في المدارس والمحافل والجامعات ، وأن يستغلوا وسائل الإعلام بمختلف أنواعها لتعليم هذه اللغة البديعة.
والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.