كثير من الخطباء لا يكتبون خطبهم التي يلقونها على الناس، ويكتفون بالارتجال ـ وبعضهم يضع عناصر أو رؤوس أقلام في ورقة صغيرة ـ أو يأخذ خطبة لغيره؛ وذلك باستعارتها أو تصويرها من كتبهم.
ومن سيئات الارتجال: أن الخطبة تُنسى وتَدْرس بانتهاء إلقائها، وبعض الخطباء المتميزين تُسجَّل خطبهم وتباع في التسجيلات، وهذا أيضاً يحفظها مدة معينة، ثم تضيع بعد ذلك، ولو سألت عن محاضرات أو خطب سجلت وانتشرت، وطارت في الآفاق قبل عشر سنوات لما وجدت لها أثراً لا عند الناس، ولا في التسجيلات إلا عند بعض من يهتمون بحفظ مقتنياتهم، وهم قليل، ومع قلتهم أنّى لك العثور عليهم؟ لكنك لو سألت عن كتاب طُبِعَ قبل خمسين سنة أو أكثر؛ فالظن أنك ستجده في المكتبات العامة، ومكتبات الجامعات، وعند أناس كثيرين.
وهذا يدلنا على أهمية الكتابة في حفظ جهود المحاضرين والخطباء؛ بل وطلاب العلم والعلماء؛ فكم من عالم طار صيته في الآفاق، إذا قرأت ترجمته عجبت من ثناء العلماء عليه، ليس له من التأليف إلا القليل؛ فكان أكثر نفعه مقصوراً على من حضروا زمنه، وتلقوا عنه! وكم من عالم أكثرَ من التأليف مع دقته وتحقيقه، وجودة ما يكتب؛ فنفع الله ـ تعالى ـ الأمة بكتبه سنين عدداً؛ بل قروناً متتابعة. وهذه كتب الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرها انتفعت بها الأمة منذ أن كتبوها في المائة الثالثة والرابعة إلى اليوم؛ بل وإلى ما يشاء الله تبارك وتعالى.
إن الخطيب قد يُعِدُّ خطبة فيتقنها، ثم تؤخذ منه فتُصوَّر وتوزع أو تطبع في كتاب، أو تُدخل في الشبكة العالمية (الإنترنت)؛ فيخطب بها مائة خطيب، أو ألف خطيب، أو أكثر في أنحاء مختلفة من الأرض؛ فينتفع بها خَلْق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، لم يكن الخطيب وقت إعدادها يتصور انتفاع هذا العدد الهائل بها.
ولعل ما سبق ذكره يدفع الخطباء إلى كتابة خطبهم، والعناية بإعدادها، مثل عناية المؤلف بكتابه؛ بل هم مطالبون بما هو زيادة على ذلك؛ فإن المؤلف لا يستطيع أن يقرأ كتابه على عشرة ينصتون إليه باهتمام. والخطيب يقرأ خطبته التي كتبها على مئاتٍ يتعبدون الله ـ تعالى ـ بالإنصات إليه؛ وذلك من فضل الله ـ تعالى ـ على الخطباء، وهو ما يوجب عليهم أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة العظيمة؛ وذلك بالإخلاص في إعداد الخطبة، والاجتهاد فيها، واحترام عقول من ينصتون إليهم، وإفادتهم قدر المستطاع.
■ لكل خطيب طريقته:
يختلف مَنْ يُعِدُّون خطبهم بأنفسهم من الخطباء تبعاً لاختلاف اهتماماتهم، وعلمهم، وثقافتهم، ونوعية المصلين معهم، ومدى تفاعلهم مع الخطيب.
فبعض الخطباء يكتفي بأفكاره وخطراته عن الرجوع إلى المراجع والمصادر، ويخط بنانه ما يوحي به ذهنه وقت الكتابة، بغض النظر عن أهمية ما يكتب من عدمه، أو ترابط الموضوع من تفككه.
وبعض الخطباء يكتفي بمرجع واحد ينقل منه، أو يختصره ويُعدِّل عليه، ويرى أنه أحسن من غيره، ممن لم يكتب، أو كتب من ذهنه وخواطره.
ومن الخطباء من لا يكتب خطبته حتى يقرأ في موضوعها عدداً من الكتب، ويراجع فيها مراجع كثيرة، وهؤلاء قلة، وفي الغالب تكون خطبهم متميزة ومفيدة.
كذلك يختلف الخطباء في مدى اهتمامهم بالخطبة؛ فبعض الخطباء لا يفكر في موضوع الخطبة إلا ليلة الجمعة أو صباحها، أو قبل صعود المنبر بوقت قصير، بل إنني سمعت مرة خطيباً في مجلس يفاخر بأنه يصعد المنبر وليس في ذهنه موضوع محدد، فيطرأ عليه الموضوع والمؤذن يؤذن، وهذا فيه استخفاف بعقول الناس، واستهانة بخطبة الجمعة التي أوْلاها الشارع الحكيم عناية كبيرة.
بينما سمعت أن بعض الخطباء المتميزين يبدأ تفكيره بموضوع الخطبة منذ نزوله من المنبر في الخطبة الماضية. وبين هذا وذاك مراحل متفاوتة من الحرص والاهتمام والفائدة.
وقبل عرض مقترح لكيفية إعداد الخطبة أحب التنبيه إلى أن الخطبة مثل الكتاب، والخطيب مثل المؤلف. ولكل كاتب أو خطيب أو مؤلف أو باحث طريقته في البحث؛ بيد أن عرض التجارب في هذه المجالات يحقق جملة من الفوائد، لعل من أبرزها:
1 - توجيه المبتدئ ومساعدته، بإعطائه منهجاً مجرّباً في إعداد الخطبة.
2 - قد تكون الطريقة التي يُعدُّ بها الخطيب خطبته فيها شيء من العسر، وهناك طرق أيسر منها، فإذا اطَّلع عليها أخذ بها.
3 - الإنسان في الأصل ناقص العمل، معرض للخطأ، والناس يكمل بعضهم بعضاً بتبادل تجاربهم وخبراتهم، وفي اطلاع الخطيب على تجارب الآخرين وطرائقهم في إعداد الخطبة تكميل للنقص عنده، أو إصلاح لخطأ في طريقة الإعداد.
لهذا ولغيره فإنني أدعو كل خطيب أن يطرح على الخطباء طريقته في إعداد خطبته؛ حتى تتلاقح الأفكار، ويستفيد بعضنا من تجربة بعض. على أن لا يزعم الواحد منا أن طريقته هي أحسن الطرق لكـل الخطباء؛ فالطريقة التي تناسبني قـد لا تناسبك، وقد استفيد من تجربتك كلها أو بعضها ولو كان قليلاً، والمسألة اجتهادية، ومهارات الخطيب وثقافته وعلمه وذوقه عوامل مؤثرة في ذلك.
ويمكن عرض الخطوات اللازمة لإعداد الخطبة على النحو التالي:
1 - اختيار الموضوع.
2 - جمع النصوص والنقول والأفكار والعناصر للموضوع المختار، وبعد الجمع سيتضح للخطيب أن مادة الخطبة: إما أن تكون كثيرة فيقسمها إلى أكثر من موضوع، وإما أن تكون مناسبة فيكتفي بها، وإما أن تكون قليلة فيزيد البحث في مظان أخرى، فإن ضاق عليه الوقت أجَّل هذا الموضوع، وبحث عن موضوع آخر تكون مادته متوافرة.
وينبغي في الجمع مراعاة ما يلي:
أ - البدء بالمصادر المتخصصة وجعلها أصلاً، ثم البحث عن مصادر أخرى مساعدة؛ فلو اختار مثلاً موضوع (الشكر) فإنه يبدأ بالكتب المتخصصة في ذلك: ككتاب الشكر لابن أبي الدنيا، ثم يرجع إلى آيات الشكر في القرآن، وما قاله أهل التفسير، ثم الأحاديث وشروحها، ثم أبواب الشكر في كتب الآداب والمواعظ والأخلاق..؛ لأن الكتب المتخصصة في الموضوع ستكفيه ما يقارب ثلثي الموضوع أو نصفه على الأقل؛ فتخفف عنه مؤنة البحث والتقصي. والكلام على مصادر الخطبة يحتاج إلى مقدمة مستقلة.
ب - أن ينطلق في عناصره وأفكاره من النصوص التي جمعها؛ فذلك أدعى للإقناع، وأيسر عليه. وبعض الخطباء قد تقدح الفكرة في ذهنه فتعجبه فيكتبها، ثم يعيا في البحث عن دليل يعضدها، ويقنع السامع بها؛ فيضيع وقته هدراً في ذلك، ثم يشعر باليأس، وربما توقف عن الكتابة، أو يذكرها بلا دليل فلا تقنع السامع، وربما كانت خاطئة وهو لا يدري.
ولذا فإن صياغة الأفكار، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها يُؤَمِّنُه من الخطأ بإذن الله تعالى، ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين؛ وبناءً عليه فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الأفكار والعناصر للموضوع.
3 - بعد اختيار النصوص والنقول التي سيجعلها في خطبته يضع لها عناصر مختصرة (عناوين تدل عليها)؛ فمثلاً عنده نص وهو قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، يجعل له عنواناً أو عنصراً: (الشكر يزيد النعمة)، وهكذا في بقية النصوص والنقول.
4 - يرتب العناصر التي وضعها بنصوصها حسب رؤيته التي يراها مناسبة لوضعها في الخطبة، فيجعل العناصر المترابطة متوالية؛ فمثلاً في موضوع الشكر سيكون عنده عناصر في فوائد الشكر، وعناصر في عاقبة الكفر (كفر النعمة)، وعناصر في نماذج للشاكرين، وعناصر في نماذج لمن كفروا النعمة..، فيضم العناصر بعضها مع بعض تحت موضوعاتها. ويكون هذا الترتيب بالترقيم والإشارة إلى العناصر لا بالكتابة من جديد، حتى لا يُثقِل على نفسه، ثم يسير في صياغة الموضوع وفق الأرقام التي لديه؛ فلا يفوته شيء، ويكون موضوعه مترابطاً منسجماً.
5 - بعد الفهرسة والترتيب يقرر ما للخطبة الأولى، وما للثانية من العناصر المذكورة.
6 - ثم يبدأ بالصياغة حسب الخطة التي وضعها، والمادة التي جمعها.
وهناك أمور ينبغي التنبه لها أثناء الصياغة منها:
أ - الإخلاص لله ـ تعالى ـ في كتابته، واستحضار النية الخالصة، ومجاهدة النفس في ذلك؛ فلا تعجبه نفسه أثناء الكتابة، أو يتذكر مدح المصلين له، وماذا سيقولون عن خطبته؛ فإنه إن أخلص لله ـ تعالى ـ بارك الله في كتابته وجهده، ونفع به الأمة.
ب - أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع؛ أي كأنه المخاطَب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه؛ فمثلاً لو كان يوجه نصيحة لواقعٍ في معصية معينة؛ فليضع نفسه مكان صاحب هذه المعصية، وكأنه المخاطَب بهذا الخطاب؛ فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.
وبعض الخطباء الذين لا يراعون هذه الناحية تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفاً، وربما لا يقبله صاحب المعصية، لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتاباً رقيقاً، تقبله النفوس وتتأثر به.
ج - إنْ أحسّ الخطيب أن القلم لا يجاريه في الكتابة، وأن أفكاره مشتتة، وذهنه مشوَّش فليتوقف عن الكتابة حتى يزيل ما يشغله أو ينساه، ثم يعود إليها مرة أخرى.
د - إذا أشكلت عليه بعض الكلمات أو الجمل من جهة إعرابها، أو صرفها، أو دلالتها على المعنى الذي يريده، أو كونها غير فصيحة فله خياران:
1 - الرجوع إلى المعاجم اللغوية للتأكد من صحة الكلمة، ومناسبتها للمعنى الذي أراده، أو سؤال من يعلم ذلك من أهل اللغة والنحو.
2 - استبدال الكلمة أو الجملة التي يشك فيها بكلمة، أو جملة أخرى يعلم صحتها، واللغة العربية غنية بالمترادفات من الكلمات والجمل.
وإن كنتُ أستحسن الطريقة الأولى؛ لكي ينمِّي الخطيب مهاراته اللغوية، وتزداد حصيلته من الكلمات والجمل.
هـ - العناية بعلامات الترقيم، وبداية الجمل ونهايتها؛ حتى يعينه ذلك على قراءة الخطبة بشكل صحيح، وعدم التعتعة والإعادة، وكثرة التوقف والتلكؤ.
■ أجزاء الخطبة:
أولاً: المقدمة: وهي التي يستهل بها الخطيب خطبته، ويهيئ السامعين لسماعها، ويجذبهم بها إليه. ونجاح الخطيب فيها كفيل بالنجاح في بقية خطبته؛ إذ إن عسيرات الأمور بداياتها. وينبغي أن يراعي الخطيب فيها جملة أمور منها:
أ - أن تكون ذات صلة وثيقة بموضوع الخطبة، وممهدة له، ومهيئة الأذن لسماعه.
قال ابن المقفع: «وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك».
وعلق عليه الجاحظ فقال: «فرِّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة الواهب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت؛ والغرض الذي إليه نزعت»(1).
ب - أن تكون مناسبة في طولها وقصرها لمجموع الخطبة، والملاحظ أن بعض الخطباء يطيل في المقدمة إطالة قد تستوعب أكثر الخطبة أو نصفها، وهذا قد يصيب السامعين بالملال، وربما يئسوا من الدخول في الموضوع، فانصرفت أذهانهم عن الخطيب. وعكس هؤلاء الخطباء مَنْ لا يعتنون بالمقدمة، فيشرعون في الموضوع مباشرة، ولـمَّا يتهيأ المستمعون بعدُ، وكِلا الأمرين غير حسن، والمطلوب: الاعتدال في ذلك.
ثانياً: صُلْب الموضوع: فبعد أن يمهد الخطيب لموضوعه في المقدمة، ويتهيأ السامعون لسماعه؛ يبدأ في الموضوع، وينبغي أن يراعي ما يلي:
أ - ترتيب الأفكار وتسلسلها: بحيث لا ينتهي من فكرة إلا وقد أعطاها حقها من الاستدلال والإقناع، سواء كان الاستدلال لها بالنقل أم بالعقل، ولا يقفز إلى فكرة أخرى، ثم يعود إلى الأولى مرة أخرى؛ فإن ذلك يُربك السامع ويشوش عليه. ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا إذا جمع مادة الخطبة من نصوص واستدلالات ونقولات وأفكار، ثم سلسلها ورتبها قبل أن يبدأ بصياغتها.
ب - التوازن بين الأفكار: فلا يُشبِع فكرة ويطيل فيها على حساب الأخريات. ومما يلاحظ عند كثير من الخطباء عدم التوازن في ذلك؛ فتراه في أول الخطبة يُشبِع كل فكرة ويطيل فيها، ويحشد النصوص لها، ثم لما يحسّ بأنه تعب، وأتعب السامعين، وأطـال عليهــم؛ ســـرد الأفــكار الباقيـــة ســـرداً بلا استشهاد ولا إقناع، رغم أهميتها، وربما تكون أهم مما طرحه في الأول، وسبب ذلك أن الخطيب ليس عنده تصور كامل لخطبته وما فيها من مادة، وكم تستغرق من وقت؟
وعلاج هذه المشكلة: أن يقدر الخطيب وقت خطبته، ويُستحسن ألا تزيد عن ثلث ساعة، فإن زاد لأهمية الموضوع فنصف ساعة على الأكثر لكِلا الخطبتين. ويقدر كم تكون من ورقة حسب خطه وإلقائه، ويحسب كم فكرة عنده، وكم لها من نص، ومن ثم يسجِّل الأفكار مع نصوصها، وما تحتاجه من صياغة على الأوراق التي قدَّرها من قبلُ، فلا تخلو حينئذ من إحدى حالات ثلاث:
1 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها متناسبة مع حجم المساحة التي قدرها ـ أي زمن الخطبة ـ فيبدأ بالصياغة مرتباً الأفكار كما سبق ذكره، معطياً كل فكرة حقها من الأسطر بلا زيادة ولا نقص إلا شيئاً يسيراً لا يُخلُّ بالخطبة.
2 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أقل من المساحة التي قدرها، وفي هذه الحالة له خيارات عدة:
أ - أن يقصر الخطبة فتكون أقلَّ من ثلث ساعة، فهو ينظر إلى استيعاب الموضوع، ولا يلتفت إلى الوقت.
ب - أن يزيد أفكاراً ذات صلة بالموضوع بقدر المساحة المتبقية.
ج - أن يسترسل في الصياغة؛ أي: يطيل في صياغة كل فكرة، بحيث يغطي النقص.
د - أن يزيد في الاستدلالات لكل فكرة.
وعلى الخطيب أن يقدر الأصلح في ذلك، بما يتناسب مع أحوال المصلين معه.
3 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أطول من المساحة المقدرة؛ فإن كان الطول يسيراً فيمضي، وإن كان كثيراً فلا يخلو من إحدى حالتين:
أ - أن يمكن قسمة الموضوع إلى موضوعين فأكثر؛ بحيث يكون كل موضوع وحدة مستقلة، فيقسمه. ومثال ذلك: لو أراد الخطيب أن يتكلم عن حشر الناس يوم القيامة، وابتدأ حديثه منذ بَعْثِهم من قبورهم ثم حَشْرِهم في العرصات... فسيجد أن موضوع البعث صالح لأن يكون موضوعاً مستقلاً؛ لكثرة ما فيه من نصوص، وهكذا موضوع الحشر، ثم ما بعد الحشر وهو فصل القضاء، فيجعلها موضوعات عدة.
ب - أن لا يمكن قسمته بهذا الشكل؛ كأن يكون الموضوع بطوله وحدة متكاملة لا تُجَزَّأ. مثال ذلك: الحديث عند فوائد الأمراض، وهي كثيرة، وفيها نصوص كثيرة أيضاً؛ فلو قدرنا أن فوائد الأمراض المنصوص عليها عشرون فائدة، وفيها من النصوص ثلاثون نصاً؛ فلا شك أن خطبة واحدة لا يمكن أن تستوعبها ولا اثنتين؛ لكن بالإمكان ذكر سبع فوائد في كل خطبة؛ بحيث تصير ثلاث خطب، أو عشر فوائد في كل خطبة؛ بحيث تصير خطبتين؛ فيسرد الخطيب في كل من الخطبتين أو الثلاث فوائد الأمراض جملة وتفصيلاً في الفوائد التي اختارها لهذه الخطبة بنصوصها. ثم في خطبة أخرى يسرد ما فصّله في الأولى جملة، ويفصل فيما لم يذكره وهكذا. ويكون عنده أكثر من خطبة في الموضوع.
ثالثاً: الخاتمة: بعضهم يجعلها في الخطبة الأولى، وينتقل في الخطبة الثانية إلى موضوع آخر في الغالب يكون موضوعاً وعظياً معتاداً يذكِّر بالنار، ويحث على التقوى، ويكون مسجوعاً، وهذا الأسلوب كان مستخدماً عند خطبائنا قبل سنوات، ولا يزال بعض كبار السن منهم ينهجونه إلى اليوم.
وأكثر الخطباء في هذا العصر ـ حسب علمي ـ يجعلون الخطبة الثانية موصولة بالأولى وفي موضوعها نفسه، وينهجون في ذلك منهجين:
أ - أن يلخص فيها موضوع الخطبة بعبارات مركزة؛ فتكون كخاتمة مركزة للموضوع.
ب - أن يذكر المطلوب من السامعين حيال الموضوع الذي طرحه، ولعلّ هذا المنهج أحسن لتلافي التكرار، ولحصول الفائدة من عرض الموضوع؛ ذلك أن المستمعين استمعوا في الخطبة الأولى إلى عرض الموضوع بأدلته النقلية والعقلية، فاقتنعوا بأهميته، وهم ينتظرون من الخطيب أن يبين لهم ما يجب عليهم تجاهه؛ فإن كان الموضوع عن سُنَّة مهجورة حفزهم لإحيائها، وإن كان منكراً حثهم على إنكاره، وإن كان نصرة للمسلمين بيّن لهم طرق النصرة ومسالكها.
■ تنبيه مهم:
يلاحظ أن كثيراً من الخطباء يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يُقنع المستمع بما أُلقي عليه؛ لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي؛ حتى كأن الخطبة لم توجَّه للمستمع، ومن ثم لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين، مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها؛ لكنهم لم يدركوا ما هو المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح.
وربما أن بعضهم لفطنته فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطَب به، وعليه واجب تجاهه؛ لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي، سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة: وهو أن يخرج الناس من المسجد وهم متشوقون لأداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب.