الانحراف عن شرع الله عز وجل له سببان رئيسان وأصلان عظيمان هما: الشهوات، والشبهات
أول معصية أخبرنا عنها ربنا عز وجل كانت بالشبهات، يوم رفض إبليس السجود لآدم لشبهة ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف:12]، ومعصية الشهوة جاءت تالية لها يوم أكل آدم وزوجه من الشجرة.
الشبهات أخطر من الشهوات لأمور منها:
- أن صاحب الشبهة أبعد عن التوبة من صاحب الشهوة، وانظر إلى حال إبليس، وحال آدم عليه السلام، أما إبليس فطلب النظرة وأصر على معصيته، وأما آدم وزوجه فقد أقرا بالذنب وطلبا المغفرة ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23].
- أن صاحب الشهوة يقر في قرارة نفسه بمعصيته وإن أقدم عليها مرة بعد مرة، بخلاف صاحب الشبهة الذي ينكر ذلك، إما عناداً واستكباراً وإما لما تسببه الشبهة من طمس للبصيرة فيظن أنه على الحق فأنا لهذا أن يرجع؟
- أن صاحب الشبهة إن قدر له التوبة منها فلا يسلم غالباً من بقاء أثرها في قلبه، والمعافى من عافاه الله.
- أن الرجوع عن الشبهة أصعب من الرجوع عن الشهوة، لأنها تكون مبنية على مقدمات عقلية يصعب على صاحبها الفكاك منها بخلاف الشهوة التي يمكن بالمجاهدة أن يتغلب المرء عليها.
- أن الشبهة غالبا ما تكون في الجانب العقدي وقد تؤدي بالمرء إلى الخروج من الدين بالكلية، بخلاف الشهوة التي ليس فيها إلا مراعاة حظ النفس الآني.
- تزداد خطورة الشبهة في عصرنا الحاضر كونها تمثل مدخلا عظيما من مداخل أعداء الله على أهل الإسلام وبخاصة الشباب، بسبب انتشار وسائل الاتصال الحديثة، والسماوات المفتوحة كما يقال بحيث يمكن أن تتسلل إلى المجتمع بقوة وسرعة على حين غفلة من أهل الصلاح والإصلاح، وبرغم أن الشهوات تجد لها نفس الطريق، إلا أن التجربة أثبتت أن الشاب بتقدم العمر يمكن أن يقلع عن الشهوات، وأما الشبهات فإنه بفضلها يصبح معول هدم في الأمة ويزداد خطره بتقدمه في العمر والمنصب.
دور إمام المسجد في مواجهة الشبهات:
ينبغي لكل فرد من أفراد المجتمع المسلم أن يكون له دور في مواجهة الشبهات كل بحسبه، وهذا من باب أنه من الأمة التي خاطبها ربنا عز وجل بقوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ [آل عمران:110].
ولكن على بعض الأمة من الواجبات ما ليس على غيرها، كالعلماء، والدعاة، وطلبة العلم، والخطباء وأئمة المساجد.
وبالنسبة لإمام المسجد، فإن له دورا بالغ الأهمية في محاربة الشبهات لأسباب عديدة منها:
- مكانة المسجد في الإسلام ودوره في بناء المجتمع على تعاليمه، فالمسجد في عهد النبوة لم يكن مكان صلاة وعبادة فحسب، بل كان كذلك مدرسة تعليمية وتربوية، وكان دار حكم وقضاء، وإليه تجمع الزكوات ومنه توزع على المحتاجين، فكان مؤسسة دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
- أنه يفترض في إمام المسجد أن يكون أكثر دراية من غيره من الدعاة بأحوال أهل المسجد والحي، فيتفقد أحوالهم، ويعرف أخبارهم، ويطلع على ما قد يعرض لهم من شبهات، أو مشكلات.
- أنه يفترض كذلك أن يكون أقرب من غيره إلى أهل المسجد والحي، فيكون له من التأثير عليهم ما ليس لغيره.
- أن طول مكثه في المسجد بين أهله يتيح له فرصة أكبر، ووقتاً أوسع للقيام بالتصدي للشبهات وتفنيدها ومحاربتها.
الصفات الواجب توفرها في إمام المسجد ليقوم بهذا الدور على أكمل وجه:
- الإخلاص، وهو مهم له كي يقبل عمله عند الله، ولمن يدعوهم ويحاول أن يزيل ما يعرض لهم من شبهة فإخلاص المرء أدعى لقبول قوله.
- العلم بالشبهة، التي يقوم بردها والإلمام بجوانبها، والعلم بالرد المحكم عليها.
- الحكمة، وبعد النظر وهذه صفة مهمة جدا كما سيأتي بيان أثرها.
- الحلم، والرفق فإن من تعرض له شبهة أشبه بالمريض الذي يحتاج إلى عناية ورعاية.
- الحزم، وذلك ينفع مع المعاند، والمجادل، بالباطل الداعي إلى شبهته الراد للحق.
- السمعة الحسنة، وحسن السيرة والاستقامة فتحلي المرء بها أدعى لقبول كلامه.
- التواضع والتبسط باعتدال، مما يعينه على إقامة علاقات طيبة مع أهل المسجد والحي، فيرجعون إليه في الملمات ويقبلون كلامه.
وسائل وطرق مواجهة الإمام للشبهات:
- عمل مجلة حائط يتم فيها بيان العقيدة الصحيحة، والحكم الصحيح في بعض المسائل التي أوردت عليها شبهات قديمة أو حديثة، دون تعرض للشبهة نفسها طالما أنها لم تثر فعلياً، وهذا يكون من باب الوقاية وتحصيناً لعقول وقلوب الناس.
- في حال إثارة شبهة على نطاق واسع، بحيث تكون متداولة بين الناس فيمكن عمل ما يلي:
عمل مجلة حائط تفند الشبهة من كل جوانبها.
عمل مجالس توعية بعد الصلوات لبيان بطلان الشبهة.
تعليق الملصقات، وتوفير المطويات، والكتيبات، والدروس المسموعة، والمرئية التي تناقش الشبهة في قسم خاص من المسجد.
دعوة بعض الدعاة وأهل العلم لإلقاء دروس في المسجد لرد الشبهة.
أما في حال كون الشبهة مثارة على نطاق ضيق وتشكِل على شخص أو أكثر في المسجد فيمكن حصر الجهد السابق وقصره عليهم حتى لا تتسع الشبهة وتصل إلى غيرهم، ويمكن في هذه الحال أن يزور الإمام هؤلاء، أو يدعوهم لزيارته ويقيم معهم علاقات خاصة تأليفاً لقلوبهم.
في حال وجود داعية جلد لهذه الشبهة في الحي، أو المسجد يمكن بعد مناصحته الاستعانة بالجهات المختصة كجهاز الهيئة وغيره لإيقافه عند حده واتخاذ ما يلزم.
الحكمة وأثرها في عمل الإمام:
سبق الكلام عن أهمية الحكمة في مواجهة الشبهات، ويمكن تلخيص هذا فيما يتعلق بعمل الإمام في نقاط، هي:
- تفقد أحوال رواد المسجد وأهل الحي، وبخاصة الشباب والفتيان ومحاولة معرفة ما يدور في جلساتهم الخاصة عن طريق بعض من يثق فيهم منهم، لأن كثيراً من هذه الشبهات اليوم تثور في مجالس الشباب ولا يدرى بها إلا بعد أن يستفحل الشر.
- عدم إثارة شبهة غير مثارة بين رواد المسجد أصلاً، فإن بعض الناس قد يطلع على شبهات غير المسلمين، أو بعض الفرق المنحرفة عن الإسلام، جزئياً أو كلياً، فيبدأ في نشرها ونشر الرد عليها، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، بينما يكون الناس في غفلة عنها أصلاً، وليس هذا من الحكمة في شيء، وقديماً قيل الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.
- في حال وجود شبهة ما فإنه لا يتم التعرض إلى ما سواها، وإن كان له تعلق بها إلا على وجه الضرورة، وكذلك قد تكون مثارة بصورة مبسطة فلا يتم التوسع في بيانها ومن ثم الرد، بل يكتفى بالمثار فقط والأمور تقدر بقدرها، وقد قال عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا، لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً. فكيف إذا كان هذا الحديث شبهة في نفسه.
عاب أهل العلم قديماً على بعض من صنف في الرد على الشبهات أنه كان يطيل النفس في ذكر الشبهة، حتى إذا أراد الرد انقطع نفَسه ولم يوفها حقها من الرد فتعلق الشبهة في العقول والقلوب، ولا يكون للرد أثره، فينبغي الحذر من ذلك.
في حال انحصار الشبهة في شخص، أو مجموعة فينبغي حصر التعامل معهم، وعدم إدخال غيرهم في الأمر كي لا يشوش عليهم.