السؤال: ما أهمية العمل الجماعي للإسلام ؟ وهل يشترط فيه أن يكون منظما ؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالعمل الجماعي للإسلام ضرورة وفريضة ،ضرورة بشرية وفريضة شرعية ؛ فهو ضرورة بشرية لأن الإنسان قليل بنفسه كثير بإخوانه ، والعالم كله يسعى للتكتلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وهو فريضة شرعية حيث حثنا الله ورسوله على الجماعة والاتحاد، ولا يتصور جماعة بغير تنظيم وتنسيق بين الجنود والقيادة والتخطيط لتحقيق الأهداف والغايات .
يقول فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم (الحل الإسلامي ... فريضة وضرورة ):
(العمل الجماعي ضرورة ، لأن هذا ما يفرضه الدين والواقع معًا:
(أ) فالدين يأمرنا بالاتحاد والتعاون على البر والتقوى، وهذا من أخص أعمال البر والتقوى وأهمها وأشدها خطرًا.
(ب) والقرآن يُطالبنا فيقول: (ولْتَكُنْ منْكمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ). (آل عمران: 104)
والأمة ليست مجموعةَ أفراد مُتناثرين ولا مجرد جماعة، جاء في تفسير المنار: "والصواب أن الأمة أخصُّ من الجماعة، فهي الجماعة المُؤلفة مِن أفراد لهم رابطةٌ تضمهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنْية الشخص".
(ج) والقاعدة الشرعية تُقرر: "أن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب"، وإقامة مجتمع إسلامي تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته، أمر واجب، ولا سبيل إلى تحقيق هذا الواجب إلا بجماعة وأمة.
(د) والواقع يُرينا أن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وأن جهود الأفراد مهما توافر لها من إخلاص، لا تستطيع أن تُؤثر التأثير المطلوب لتحقيق الهدف المنشود؛ لأنها ضعيفة الطاقة، محدودة المدى، وقْتية التأثير. وقد يكون الأفراد كثيرين، ولكن تعدد الاتجاهات، واختلاف المسالك، وفقدان الربط والتنسيق بين العاملين، يُبعثر الجهود ويضعف من تأثيرها. أما العمل الجماعي، فيضم الجهود بعضها إلى بعض، وينسق بينها ويوجهها إلى خدمة الهدف المقصود، ويجعل من اللَّبنات الضعيفة بمفردها بُنيانًا مرصوصًا يشدُّ بعه بعضًا .
(هـ) وإذا نظرنا إلى القوى المُناوئة للإسلام ـ على اختلاف أسمائهم وأهدافها ووسائلها ـ وجدناهم يعملون في صورة جماعاتٍ وتكتُّلات وأحزاب وجبهات، ولا يُقبل ـ في ميزان الشرع لا العقل ـ أن يُقابل الجهد الجماعي المنظم، بجهود فردية مُبعثرة، وإنما يُقابل التكتل بتكتُّل مثله أو أقوى منه، ويُقابل التنظيم بالتنظيم، كما قال أبو بكر لخالد: حاربْهم بمثل ما يُحاربونك به السيف بالسيف، والرمح بالرمح، والنَّبْل بالنبل.
وإلى هذا يُشير قوله ـ تعالى ـ: (والذينَ كَفَرُوا بعْضُهُمْ أولياءُ بعضٍ، إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ). (الأنفال: 73).. أيْ: إنْ لم يُوالِ بعضكم بعضًا: وينصر بعضكم، كما يفعل الكفار، تحدث الفتْنة والفساد، لاتِّحادهم وتفرُّقكم وتناصُرهم وتَخاذُلكم.
ضرورة التنظيم:
ولابد للعمل الإسلامي المثمر مِن التنظيم، فلا يكفي أن يكون جماعيًّا حتى يكون مُنظمًا، بل لا يكون جماعيًّا حقيقة إلا بتنظيم. والتنظيم يعْنِي وُجود قيادة مسئولة، وجُندية مطيعة، ونظام أساسي يُنظم العلاقات بين القيادة والجنود، ويُحدد المسئوليات والواجبات، ويبين الأهداف والوسائل، وجميع ما تحتاج إليه الحركة في إدارة أجهزتها. وأكتفي هنا بالحديث عن عنصري القيادة والجندية.
القيادة المسئولة:
والإسلام يحرص على التنظيم في كل شيء، حتى في الأمور العادية المُتكرِّرة مثل السفر، وفي الجماعة الصغيرة التي لا يَزيد عددها على ثلاثة ففي الحديث النبوي: "إذا كُنتم ثلاثة فأمِّروا أحدَكم". وهذا رمز إلى التزام التنظيم فيما هو أعظم وأكبر مِن الرفْقة في السفر، وفيما هو أكثر عددًا وأرفع شأنًا مِن ثلاثة من المسافرين.
متى تكون القيادة شرعية؟
ولا تكون القيادة شرعيةً حقًّا إلا إذا جاءت نتيجة الاختيار الحُرِّ والبيْعة الصحيحة، لا بالضغط ولا بالمُناورات.
والأصل في القيادة أن تكون فرديةً، فهذا هو المُوافق لظاهر النصوص والسوابق الإسلامية، وهو الذي يجعل للقيادة سرعة الحركة، والقدرة عل تصريف الأمور.
ولكن لا مانع في بعض الظروف مِن وجود قيادة جماعية، خروجًا مِن خلاف واقع أو تفاديًّا لنِزاع يُتوقع، أو ترقُّبًا لقائدٍ قوي، أو نحو ذلك من الاعتبارات، التي قد تُوجبها الضرورات، فتقدر بقدْرها، ولا داعي للانفعالات والتشنجات ضد القيادة الجماعية، إذا اقتضتها المصلحة في بعض الأحيان. فقد أجاز الفقه الإسلامي إقرار إمامة غير المجتهد، بل إمامة الفاسق، وإمامة المُتغلب إذا كان مِن وراء الإقرار مصلحة أكبر، وخِيف مِن جرَّاء الرفض مفسدة أعظم. وحيثُ تتحقق المصلحة فثَم شرْع الله .
والقيادة الشرعية هي التي تتخذ الشورى قاعدة لها فيما ليس فيه نص ثابت صريح مُلزم لا معارض له، وفيما له طبيعة الأمر العام الذي يَهُمُّ جميع الناس أو جُمهورهم، وهو الذي جاء فيه قوله ـ تعالى ـ في سورة الشورى: (وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). (الشورى: 38)، وفي سورة آل عمران: (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ). (آل عمران:159).
وهي التي تنزل عن رأيها إلى رأي الأكثرية مِن أنصارها ورجالها، وإن خالَف في ذلك مَن خالف مِن الفقهاء قديمًا ومن الدعاة حديثًا، فالرأْي الأرجح الذي يطمئن إليه القلب إن الشورى مُلزمة .
الجندية المطيعة:
والجندية التي تعنيها هي التي تُنفذ ما تؤمر به، ومُلتزمة طاعة القيادة في اليسر والعسر، والمَنْشط والمكْره مُتنازلة عن رأيها الفردي لرأي الجماعة. ما لم يكن مَعصية بيقينٍ فلا طاعة حينئذ لمَخلوق في معصية الخالق.
وإنما قلنا" معصية بيقينٍ"؛ لأن هناك أمورًا مُختلَفًا فيها بين الحِلِّ والحُرْمة، وفيها أكثر من رأي فلا يجوز للفرد أن يتصلَّب فيها، ويتمسك برأيه الشخصي إذا ألزمته الجماعة بغيره.
هَبْ أن الحركة طلبت إلى شاب من أبنائها ألا يُعفي لحيته؛ لأنه في موقع ترى من المصلحة للدعوة التي يحملها ألا يظهر بهذا المظهر المميز الذي يجلِب عليه شرًّا، أو يعوقه عن الإنتاج للحركة، أو يُسلط عليه أضواء قد تضر به وبدعوته. أو غير ذلك. وفِقْهُ الحركة في ذلك أن هناك مِن العلماء مَن قال بكراهية حلْق اللِّحْيَةِ، ومنهم ـ وهم الأكثر ـ مَن قال بحُرمته.. فإذا أخذت برأي مَن يقول بالكراهية فقط، فإن الكراهية تزول بأدنى حاجة. فكيف إذا كانت هذه الحاجة مصلحة الدعوة والجماعة؟.
وقد يكون الأمر حرامًا في ظاهره، ولكن يَضطر الإنسان إليه، تفاديًّا للوقوع في مُحرم أكبر، وارتكابًا لأخفِّ الضررين، وأهْون الشرَّين.
ضرورة التخطيط:
ومعنى التخطيط: ألاَّ تَدَعَ الحركة نفسها للظروف والمُصادفات تُسيرها سيْرًا عشوائيًّا اعتباطيًّا، تعمل ما لا تُريده، وتريد ما لا تعمله، وتدفع دفعًا إلى السير في غير طريقها، وإنما يجب أن تسير في خط واضح المعالم، مُحدَّد المراحل، بيِّنِ الأهداف، معلوم الوسائل .
وليس هذا من التهجُّم على الغيْب، أو بالتأَلِّي على الله، أو المُعارضة للقدَر، كما قد يفكر بعض عوامِّ المتدينين، فإن الإسلام يدعو الإنسان إلى أن يأخذ من يومه لغده، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لسقمه، ومِن فراغه لشغله وهذا كله نظْرة إلى المستقبل.
وقد قصَّ علينا القرآن قصة يوسف ـ عليه السلام ـ وفيها تخطيط اقتصادي تمويني لمدة خمس عشرة سنةً، قام عليه النبي الكريم يوسف تفكيرًا وتنفيذًا، ولا يَضيرنا أن مصدر هذه الخطة مِن إلهام الله ليوسف وتعليمه إياه مِن تأويل الأحاديث والرؤى، فهذا لا تأثير له في الحكم المُستنبط من القصة، وهو شرعية التخطيط للمستقبل، الذي ذكره القرآن في معرض التمدُّح والامتنان.
والمُتأمل في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى أن مراحلها وخطواتها لم تمضِ ارتجالًا، ولم تتمّ اعتباطًا، بل تمتْ بعد تفكير وتدبير يُسدده الوحي عند الاقتضاء .
والتخطيط يعني التفكير الهادئ، والدراسة المستوعبة لكل عملٍ يُريد الإنسان أن يُقدم عليه حتى يَمضي فيه على هدى وبينة، ويمشي على صراط مستقيم.
ولا نجد دينًا دعَا إلى التفكير كالإسلام، الذي اعْتُبر التفكير فيه فريضةً وعبادة.
ودعا إلى دراسة كل أمرٍ ذي بال يقدم عليه المسلم، ومِن هنا جاء الأمر بالشورى والحث عليها، ووصف المُؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، والفرد المسلم مُطالبٌ بأن يستشير في أموره الخاصة حتى لا يندم،فكيف بالأمور الكبيرة، والشئون العامة؟
مهمة الحركة الإسلامية:
لقد أصبح من الضروري ـ إذن ـ أن تقوم في كل بلد إسلامي "حركة إسلامية" واعية شاملة، تحمل عبْء الدعوة إلى تطبيق النظام الإسلامي، وإحياء المجتمع الإسلامي، وتكوين الجيل المحمدي، الذي يُمهد السبيل للعودة إلى حكم القرآن ودولة الإسلام.
ولا شكَّ أن حركةً كهذه لابد أن تكون مُهمتها ثقيلة وخطيرة، ولا يقوم بها، ويصبر عليها إلا أُولو العزم من الرجال، الذين باعوا أنفسهم لله، ووهبوا حياتهم لنُصرة دينه، غير مُبالين بما يُصيبهم من نَصَبٍ أو بلاء في سبيل الله.
إن مهمة الإنسان في الحياة مهمةٌ كبيرة لمَن يُقدِّرها حقَّ قدْرها؛ لأنها مهمة الخلافة في الأرض والعبادة لله، والعمارة للحياة. وهى مسئولية ضخمة صوَّر القرآن ضخامتها وثِقلها حين قال: ("إنَّا عرضْنَا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ منْهَا وحَمَلَهَا الإِنْسانُ). (الأحزاب: 73) .
ومهمة الإنسان المسلم أعظم وأضخم من مهمة أيِّ إنسان آخر، فقد ورث المسلم تركات الأنبياء والرسل جميعًا، واختصَّ الله أمة الإسلام بالرسالة الخاتمة، والشريعة العامة الخالدة، وكلفهم ـ مع تنفيذها والعمل بها ـ تبلغيها ونشرها والدفاع عنها، وهداية العالم إليها. لتحقق بها رحمة الله للعالمين. وإنها لَتَبِعَةٌ عظيمة، ومسئولية ثقيلة، ولا غَرْوَ أنْ خاطب اللهُ صاحبَ هذه الرسالة بقوله: (إنَّا سَنُلْقِي عليكَ قولًا ثَقِيلًا). (المزمل: 5)