التأريخ الإسلامي وأهميته
أضحى علم التأريخ في العصر الحديث يحتل مكانة عالية بين العلوم، بل و يأتي في الصدارة بين العلوم من حيث الإهتمام به وبمؤلفاته، حتى صار يطلق على العصر الحديث بعصر التاريخ. وإلى ما قبل الحرب العالمية الإولى- كما يشير مؤنس- ( التاريخ والمؤرخون ص5)كانت المؤلفات في التاريخ وما يتصل به من تراجم وقصص تاريخي وآثار وغيرها من فروع المعرفة التأريخية، تُكون خمس المكتبة العالمية.
هذا الإهتمام بالتاريخ لم يأت من فراغ؛ فالإنسان عبر تاريخه الطويل مرتبط أشد الإرتباط بجذور تاريخية في كل جوانب حياته المختلفة، وما المرحلة التي يعيشها إلا إحدى حلقات السلسلة التاريخية التي ترتبط بسلسلة تاريخية طويلة وعميقة الجذور. فهو- الإنسان - تاريخي بجوهره وطبعه -كما يقول قسطنطين زريق-( نحن والتاريخ ص22) ؛ذلك أن وعي الإنسان التأريخي يبدأ منذ إدراكه لنفسه وشعوره بإنسانيته وبإحساسه، لما له في ماضيه من رصيد تاريخي. وقد دأب الإنسان على تسجيل تجاربه الحياتية المختلفة، بمختلف الوسائل وبما تتيحه له ظروف عصره؛ لإحساسه بأهمية تسجيل تلك التجارب، وشعوره بأهمية إيصالها إلى الأجيال اللاحقة ؛ولأن هذا الإجراء هو جزء من متطلبات النفس الإنسانية، وإحدى طبائع تكوينها الخلقي وفطرتها التي فطرها الله عليها؛ لأنه بمعرفة الإنسان أمور جنسه يعرف نفسه. ومما ساعد على إبراز الأهمية التاريخية الكبرى في العصر الحديث رغم اتساع ميادين العلوم الأخرى- الطبيعية التطبيقية والإنسانية النظرية بمختلف اتجاهاتها وميادينها الحديثة- ،هو أن المفهوم التأريخي والوعي بالتاريخ وأهميته، صارا أكثر وضُوحاٌ وأهمية؛ بفعل التطورات السريعة في جوانب الفكر والعمل المختلفة، وكذا التقلبات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية، التي أخذت تتوالى على الأمم في كل مكان،وبظهور المذاهب الفكرية والنقدية والنظريات الحديثة؛كل هذا أدى إلى إعادة النظر في التأريخ المكتوب وغير المكتوب وفي مناهجه وفلسفته ، فظهرت مفاهيم جديدة طرأت على النظرة إلى علم التأريخ ودراسته.وتم ابتكار مفاهيم ومناهج حديثة في دراسته ومناهجه وصياغته تربطه بالتطورات الفكرية والعلمية الأخرى-خاصة الاجتماعية منها-. وصار تفسير الأحداث التاريخية وتعليلها؛ -للاهتداء إلى الربط بين جزئياتها الخفية والظاهرة- هو الأساس في الدراسات الحديثة للتاريخ؛وذلك لإظهار وحدة الحدث التاريخي وربطه بسلسلة الحلقات التاريخية المتماسكة والمتفاعلة مع الزمن والبيئة ،امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان - كما يشير إلى ذلك سيد قطب-( في التاريخ فكرة ومنهاج ص22)
وإذا كان التاريخ بعامته يحتل تلك المكانة وتلك الأهمية بين العلوم؛ والتي جعلت المجتمع الغربي- في العصر الحديث- يولى جانب الدراسات التاريخية الأهمية الكبرى، فإن التاريخ الإسلامي أو تاريخ الأمة الإسلامية لجدير بالمزيد من الإهتمام والدراسة من جميع جوانبه المختلفة، وحقيق بتوفير كافة الإمكانات البحثية التي تحقق المزيد من النتائج المرجوة منه؛ لتستفيد منه المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية إفادة ايجابية في مختلف النواحي والشئون الحياتية؛كونه يستمد فكره من الفكر الإسلامي العام ذو النظرة الحضارية الأخلاقية الإنسانية ، وقد وعى علماء المسلمين لهذه الأهمية التاريخية فأخذوا بتدوين الجوانب المختلفة من حياة الأمة الاسلامية .
ولا شك أن نظرة أولئك المؤرخين للتاريخ وأهميته، قد استمدوها من المنظور الفكري القرآني للتاريخ ،الذي سرد في كثير من آياته أخباراً عن الأمم السابقة ومصائرها من منطلق أخلاقي حضاري ، يتمثل بعلاقة تلك الأقوام مع الرسل المرسلين من قبل الله إليهم لهدايتهم إلى طريق الحق والرشاد من منطلق ديني فكري واحد، وأن يحققوا لهم سعادة الدارين الدنيا والآخرة ؛ حتى تكون تلك الأخبار والمصائر صالحة لأخذ العظات والعِبر منها،كون التجارب البشرية صالحة للاتعاظ في أي زمان ومكان؛ لثبات السنن الإلهية في الكون والبشر والتي لن تتغير أو تتبدل حتى تقوم الساعة. لقوله تعالى: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً وقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ.. وكثيرة هي الآيات القرآنية التي دَعت إلى التَّدَبُر والتفكر في الجانب التاريخي للكون والخلق الأمم السابقة ومصائرها، منها أيضا: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فكان لتلك الإشارات القرآنية الأثر الكبير في إثارة الوعي التأريخي عند المسلمين؛ فاتجهوا نحو الكتابة في التاريخ في جميع جوانبه الإنسانية، فبلغت المؤلفات التأريخية في فروع التاريخ المختلفة نسبة تفوق بكثير المؤلفات في العلوم الأخرى.
وبالإضافة إلى القرآن الكريم، استمد المسلمون نظرتهم إلى التاريخ، من خلال السنة النبوية الشريفة. فكانت نظرتهم له نظرة شمولية تكاملية أفقية واسعة، بحيث شمل التأريخ تسجيل كافة النشاطات البشرية القابلة لأن تُُتخذ للعظة والعبرة والعوامل المؤثرة فيها؛ ولذلك تميز التأريخ الإسلامي عن غيره من تواريخ الأمم الأخرى بهذه الشمولية والعلمية ، حيث قرروا أن التأريخ علم كسائر العلوم لأهميته وأهمية لأهداف التربوية التي يسعى إلى تحقيقها. والتاريخ الإسلامي مرتبط بالعقيدة الإسلامي ذاتها، وهي عقيدة التوحيد ذو البعد الحضاري في النظرة إلى الإنسان ونشاطاته، والتي لا ترتبط بزمان و مكان محددين ولا بأُمة بعينها، وإنما تسعى إلى تحقيق غاية التوحيد في الحضارة البشرية جمعاء، عبر مختلف الأجيال والعصور من ظهور آدم – عليه السلام – وحتى قيام الساعة. وبالتالي فإن التاريخ الإسلامي يكتسب أهميته من أهمية الإسلام ذاته، ذلك أن الإسلام دين تاريخي وتوحيدي ، فهو المنهج الحضاري الأخلاقي العام نفسه الذي كان ملة الأنبياء جميعا ودعوا أقوامهم إليه ،والذي لن يرضى الله بغيره دينا: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. هذا المنهج وهذه الدعوة التاريخية الأخلاقية الحضارية التي سار عليها جميع الأنبياء هي دعوة الإسلام ومنهجه الحضاري الأخلاقي وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ومن هنا تأتي أهمية التاريخ الإسلامي من أهمية ارتباطه الديني بالعقيدة القائمة على التوحيد والشمولية التاريخية للإنسانية جميعها، وشمولية موضوعاته الأخلاقية الحضارية لتشمل رصد كافة الجوانب الحياتية، المختلفة للنشاط البشري. وهو في الوقت ذاته، تأريخ هذه العقيدة التي بينت لنا جزاء من يلتزم بها وجزاء من يخالفها. غير أن التاريخ الإسلامي بالصورة التي وصلنا بها من خلال المؤلفات التاريخية القديمة والحديثة، لايمثل التاريخ الأصلي بكل بصوره المثلى ؛ لظروف مختلفة ، لذا فهو بحاجة إلى مزيد من الدراسات الأكاديمية الحديثة للكشف عن كثير من مدلولاته من خلال دراسة مصادره دراسة تحليلية نقدية ، وذلك لتحقيق الفائدة المرجوة منه.